فيا سقاها وطن
تلك الرمال التي تتخذ من سنابك خيول الفتح والوحدة وشماً، ومن صهيلها حداءً، ومن نخوة الرجال دستور أنفة وعزة.. تلك الأرض التي تتكئ على خاصرة الأحمر، تحدق دوماً في السماء، وتحفظ أسماء النجوم جيداً، لأنها تكتبها على جباه الرجال السمراء، وتنظمها عقوداً على صدورهم، وتشرب القمر في نهم كبير، لأنها تعرف طعمه في سويعات السهر والسحر، عندما تختلي نسائم الجزيرة بسعف النخيل.
تلك الهضاب التي تسمو منتشية ببهاء الأفق المستميت في ملاحقته للسماء يرنو حيناً بنظرة عابرة إلى الوراء لينطلق مرة أخرى إلى الأمام كأنه الصب المولع بجمال المعالي لا يشفى غليله سوى برد العناق.. تلك الجبال التي تتطاول فوق السحاب في شموخ لا يعتريه الكبر ولا تشوبه الخيلاء تتقاطر في انتظام جميل ندية خضلة لأبنائها شائكة مستعصية على أعدائها.. تلك السهول والوهاد التي تتسابق مع الريح ليهيم الشمال بالجنوب وليهنأ غربنا بالشرق فإذا الجهات الأربع خمساً تزيدها واسطة العقد رونقاً وبهاءً، وتكتبها قصائد فخر، ومدح، وغزل.
تلك الروابي التي تتعلق بها الروح وتتجاوب في أرجائها الرحمة تتضوع عطراً من أثر الرسول، الحبيب الذي حباه الله واصطفاه.. على ثراها وُلد، وفي جوفها دُفن، أضاء في مكة فاستدارت له الأرض فكل مكان فيها يشتهي أن تكون مكة مكانه ليأنس بالقرب، ويهنأ بنفحات الوحي، ويأمن في جوار بيت الرب.فأي شرف هذا الذي نالته مكة حين اختارها الله موضعاً للبيت الأول، وحين خصها سبحانه بالقرآن يتنزل فيها آية آية لتشفي القلوب المريضة، وينهمر الخير، وتؤوي إليها الأفئدة بعد أن سرت إلى الأعالي دعوة خالدة فكانت آمنة على الدوام حرة على الأيام أبية بين الأنام تتهاوى نسمائمها في هجرة دائمة تتبع خطا غالية رسمت في إبداع مهيب خارطة الطريق إلى المكان الثاني الذي ما فتئ عبر العصور يروي للبرية أروع القصص.. تلك طيبة، بنى فيها محمد مسجده واعتلى فيها منبر الدعوة والتعليم فأتت إليه كل الدنيا طائعة مصغية فالكلام ما أحلى سماعه! والهدي ما أحرى اتباعه!
وتقاطرت حول مكة والمدينة العواصم في بلاد عنوانها التهليل ودستورها العدل فكانت عاصمة العواصم الرياض حيث الإمارة والحكم أحبها المؤسس عبدالعزيز فأحبته، وصاغها جملاً في رواية عذبة يلتف حول راويها السمار ينعمون ويأنسون. تسري في أرواحهم نسائم نجدية تنقلت بين النخيل، وفي فيافي الخزامى فطاب المقام واجتمع الشمل ودلف إلى المجلس الزائرون ففي الرياض يصنع الحدث.
وفي الصباح حيث يحمد القوم السرى تطل الشمس أول ما تطل على ضفاف الخليج فتبعث في النفس الدفء، وتشمر السواعد فيجري الخير بإذن الله، وترسم لوحة امتزجت فيها ألوان عجيبة تسحر الأعين، وتأخذ بالألباب تمثل فيها سحر تبوك، وكرم حائل، وأريحية الجوف وربيع عرعر، وحصاد القصيم. وانبرت السراة صعوداً وهبوطاً تحتضن الباحة، وتطل بحنو على جازان، وتتلفت باشتياق إلى عبق التاريخ في نجران، وتبلغ غاية بهاها في أبها التي لطالما ضحك الزهر فيها من دموع الغمامة.
تلك العناوين التي تتعلق بها نياط القلب.. فيا سقاها وطن.
٭ مكتب التربية العربي لدول الخليج
هناك تعليق واحد:
مقال جميل
وهنا اقتباس :
"شعراء الحميني أكثر الشعراء تغزلاً بصنعاء وهوائها ومسكنها وما زالت قصائدة متداولة بين الناس منذ قرنين من الزمان ولعل أحمد بن حسين المفتي كان رائد أولئك الشعراء في وصف صنعاء بقوله :
ما مثل صنعاء اليمن كلا ولا أهلها
صنعاء حوت كل فن يا سعد من حلها
ينفي جميع الشجن ثلاث في سفحها
الماء وخضرة رباها الفايقة بالوسامة
وكل معنى حسن كم يضحك الزهر فيها من بكاء الغمامة : فيا سقاها وطن"
إرسال تعليق